في زمنٍ باتت فيه قيم الإخاء عملة نادرة ، حينما تراجعت المروءة أمام المصالح ، برزت المملكة العربية السعودية كأيقونة للوفاء ، وركن ركين من ثوابت العروبة والإسلام … ففي خضم محنة السودان العصيبة ، لم تكن المملكة غائبة عن الميدان ، وكانت في طليعة من لبى نداء الضمير دون أن يطلب منها ، فحافظت بذلك على العهد وصانت الوعد ، فامتد عطاؤها بالقول والفعل ، وشهد بصدقها القاصي والداني ، لقد أثبتت السعودية أن الإخاء الحق لا يموت ما دامت هناك أوطان تحيا على القيم .
منذ اللحظة الأولى لانفجار نار الحرب في السودان ، لم تقف المملكة العربية السعودية موقف المتفرج ، ولم تختبئ خلف جدران الصمت السياسي ، و كانت أول المبادرين بخطى واضحة ومسؤولة ، كدولة شقيقة ، و داعم حقيقي لحياة السودانيين ، في زمن بات فيه البقاء نفسه معجزة .
في اللحظات الأولى التي تلبدت فيها سماء الخرطوم بدخان حرائق الحرب ، سارعت الرياض عبر مهندس الدبلوماسية سعادة السفير علي بن حسن جعفر إلى نقل سفارتها إلى بورتسودان ، كإجراء دبلوماسي حذر ، و رسالة صريحة مفادها نحن هنا قريبون منكم ، و يمكننا أن نكون فاعلين ، ولم تكتف المملكة بهذا التحرك اللوجستي ، ففتحت معه على أرضها منبر جدة ، ليكون واحداً من أبرز مساعي الحل السياسي في المنطقة ، حيث إجتمعت فيه القوى ، وتداولت في باحاته الرؤى ، تحت رعاية سعودية أمريكية ، وحرصت المملكة على أن تبقي شعلة الحوار مضيئة ، ولو كان ذلك في وسط العتمة .
لم تكن المواقف السعودية حبيسة الدبلوماسية ، فقد تمددت إلى حيث يحتاج الجسد السوداني الجريح إلى شريان يضخ لها الحياة ، ومن هناك هب مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية ، كمنارة في ليل الحاجة ، ولم يتوقف عن إرسال القوافل الغذائية و الإيوائية ، وذهب إلى أبعد من ذلك ، فبعث بالأدوية حين انقطعت عن الصيدليات ، وأرسل الفرق الطبية حين عجزت المشتشفيات عن النهوض ، فأجريت آلاف العمليات الجراحية في ولايات السودان المختلفة ، بجهود سعودية خالصة لا تبتغي من ذلك جزاءً ولا شكوراً .
فقدمت دعماً تنموياً مقدراً للمجال الصحي شمل إعادة تأهيل المستشفيات ، ورفدها بالمعدات ، في كل ولايات السودان ، في وقت بدت فيه هذه المرافق وكأنها شواهد على انهيار كامل ، لولا يد العون التي لم تسحب .
ولأن الموقف الإنساني لا تحده القوانين ، فكسرت المملكة بكل وعي ومسؤولية قواعد و قوانين الهجرة والإقامة المعتادة ، وفتحت أبوابها للسودانيين الهاربين من جحيم الحرب ، و أتاحت لهم الإقامة على أرضها بموجب تأشيرات زيارة عائلية ، لم تكن مجرد استضافة لزائر ، لأنها كانت أشبه بإقامة إنسانية متجددة تُمدد كل ثلاثة أشهر ، في سابقة قلّ نظيرها ، و بذلك تكون قد جسدت عمق التضامن وسمو الموقف ، فالسوداني في أرض المملكة لم يكن لاجئاً ، و لكنه كان أخاً و ضيفاً عزيزاً ، لم يُعامل كغريب بل كصاحب البيت .
الحرب لا تحطم الحجر وحده ، حيث إستهدفت الروح، فلم تغفل المملكة عن الجانب الثقافي ، فكان اسم السودان حاضراً بقوة في الفعاليات الكبرى بالرياض (إنسجام عالمي) ، فكان الثراث السوداني حاضراً ، والموسيقى والفكر في فضاءات تنسجم فيها الجنسيات والأصوات والألوان ، و يأتي ذلك من باب تكريم للهوية السودانية ، وحفظاً لوجهها الإنساني على الرغم من المعاناة .
وفي ذات الأثناء تساقطت الجدران تحت آلة الحرب ، فتقدّمت المملكة العربية السعودية الصفوف برؤية متأنية ، وبخطط مدروسة تستشرف المستقبل قبل أن تلامس الحاضر ، فلم يكن حضورها طارئاً ولا من واقع عاطفي ، و لكن جاء محمولاً على أكتاف فرق فنية وإستشارية أوفدتها لتقرأ ملامح الواقع السوداني بعد العاصفة ، وتستبصر مكامن البناء الممكن … وبين أطلال مستشفيات الخرطوم ومرافق البنية التحتية، شرعت المملكة في غرس لبنات مشروع لا يكتفي بالإغاثة، و يذهب من أبعد.من ذلك ، و يؤسس لمسار تنموي متكامل ، يستعيد للسودان عافيته ، ويعيد تشكيل ملامحه حين تضع الحرب أوزارها. ،فهو إلتزام أخلاقي لا تُحرّكه اللحظة ، و لكن تؤطّره رؤية تضع الإنسان في قلب الاهتمام ، وتعيد للإخاء العربي معناه العميق وفعله المؤثر .
فما قدمته السعودية للسودان لم يكن صدفة عابرة ، فهو موقف ثابت في زمن التقلّب ، فقد اختارت المملكة أن تكون على الضفة الأقرب من المعاناة ، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الجرح ، ولا قيمة تُقدر أكثر من حياة الإنسان ، وفي وقت كانت تتعالى فيه أصوات الدول بالبيانات و الشجب ، كانت السعودية تتحدث بالأفعال ، على الأرض ، وباليد الممتدة .
عموماً ستطوي الحرب صفحاتها في مقبل الأيام القادمات ، و سيحفظ التاريخ سفر مشرق كتبته المملكة بأحرف من نور ، يذكرنا بالدمع الممسوح ، والدواء المنقذ للحياة ، والبيوت التي أُعيد إليها الضوء ، و الوقفة الإنسانية التي كانت من أجل الله .