أعيد نشر هذا المقال للذكرى والتاريخ ، إذ تم نشره في مثل هذا اليوم منذ أربع سنوات أي في الرابع من ابريل عام 2020 م ..وأتساءل إن كنا قد وعينا الدروس .
….. المقال …..
أذكر تماماً أنه وعقب إنتفاضة أبريل 1985م التي أطاحت بنظام الرئيس الراحل جعفر محمد نميري _ رحمه الله _ وبعد تولّي المشير عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب _ رحمه الله _ لمقاليد الأمور في البلاد ، بدأت تظهر في الأفق بعض الأسماء من داخل الأحزاب والكيانات السياسية ، مرشحةً لمناصب وزارية مؤثرة لفترة ما بعد الفترة الإنتقالية ، وكان من بين تلك الأسماء ، إسمٌ لم يسمع به كثيرٌ من الناس ، إلا في دائرة ضيقة إلى أبعد الحدود ، هي دائرة زعيم الحزب الذي ينتمي إليه صاحب الإسم الجديد في عالم السياسة ، فسألتُ خبيراً صحفياً كبيراً كان على صلةٍ بالشخصية المرشحة لموقع متقدِّم ومهم في حكومة ما بعد الإنتخابات ، التي يضمن فيها الحزب الذي ينتمي له صاحب الإسم الجديد _ بالنسبة لي ولكثيرين _ أكثر من ثلث مقاعد البرلمان ، سألت الصحفي الكبير عن شخصية هذا ( الوجه الجديد ) فقال لي ساخراً ، إن زعامة حزب الرجل تريد أن تصنع منه زعيماً ، لكن الزعيم وقيادة الحزب نسوا أو تناسوا إن الزعامة لا تأتي بالتعيين ، إنما تجيئ نتيجة مواقف ثابتة وقوية في الدفاع عن مصالح العامة ، منذ وقت الصبا وبدايات العمل في المجال العام ، وتنبأ بفشل الرجل وسقوطه في أول إختبار . وتحققت نبؤة ذلك الخبير ، إذ حاصرت المشاكل والقضايا المعقدة وبعض الفضائح السياسية الرجل حتى أقصته من المشهد تماماً ، رحمهم الله جميعاً ، ولكن ما أكثر العِبر ، وما أقل الإعتبار .
مناسبة هذه القصة هي المبادرة الطيبة التي دفع بها إلى الشعب السوداني مساء الخميس الأول من أمس ، السيد رئيس مجلس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك ، والتي أطلق عليها إسم (القومة للسودان) ، المبادرة طيبة بلاشك ، ولكن هل سيكون لها الأثر الواضح والكبير ، وهي قد جاءت من رئيس وزراء صاحب إمكانيات علمية معلومة في دوائر معارفه وتخصصه ، لكن عامة الناس لا يعرفون عنها شيئاً ، ولا يعرفون الرجل ذاته إلا عندما رشحه النظام السابق لتولي منصب وزير المالية لإعتبارات وتقديرات مرتبطة بعلاقاته بالمؤسسات المالية والإقتصادية الإقليمية والدولية ، لذلك كان بعيداً عن المواطن العادي، الذي لم يشعر بأي تغيير أو تحسّن في الأوضاع بعد أن تولّى السيد حمدوك هذا المنصب الرفيع .
يشعر كثير من الناس وهم محقون في ذلك إن قوة وضعف أي حكومة مرتبط بقوة وضعف رئيسها ، ولم يثبت السيد حمدوك حتى الآن ما يؤكد على قوته كرجل حكم قوي ، وقد لا يكون هذا بسبب مباشر منه ، بل بسبب عدم إتفاق منظومة الحرية والتغيير حول التفاصيل ، وهذا أمر وضح بجلاء لكل ذي عين وبصيرة في عالم السياسة السودانية .
ثم جاءت دعوة رئيس وزراء الفترة الإنتقالية ، بلغةٍ الباردة ودون إنفعال حقيقي ، كأنما أُمْليت عليه إملاءً ، ودون أن يتبعها فِعلٌ إيجابي ملموس ، مثل أن يعلن السيد حمدوك نفسه ، عن تبرعه بمبلغ مائة ألف دولار أو خمسين ألفاً أو أكثر أو أقل لدعم المبادرة ، لتتوالى بعد ذلك ردود الأفعال الإيجابية من طرف أعضاء الحكومة تجاوباً مع المبادرة الطيبة ، وذلك بالتبرع _ مثلاً _ بمرتب شهر كامل ليكون السيد رئيس الوزراء وأعضاء حكومته هم النموذج الذي يًحْتذى ، ويتّبِعه الآخرون . لكن للأسف الشديد ، إن ذلك لم يحدث ، بل أخذ كثير من الناس يسخرُ من المبادرة والطريقة التي قُدِّمتْ بها ، وهذا أمرٌ يتطلّبُ وقفةً ومراجعةً من مستشاري رئيس الوزراء ، أو الذين أشاروا عليه بطرح المبادرة .
النتيجة التي نخرج بها هي إن أي زعيمٍ سياسي ، أو قيادي من أصحاب الشعبية والتأثير لو قام بمثل تلك المبادرة لوجدت التجاوب السريع من قبل أتباعه ومحبّيه ومنسوبي حزبه أو جماعته ، فتخيّل أن هذه المبادرة مثلاً جاءت من السيّد الإمام الصادق المهدي ، أو من إيٍ من القيادات الحزبية والشعبية ، تُرى هل كانت ستُقابل بهذا الصمت الرهيب ؟ لا أعتقد ذلك .
ثم هناك ما هو أهم .. وهو الحالة الإقتصادية المتردية ، وصعوبة العيش ، تكاليف الحياة الباهظة بالنسبة لأي مواطن سوداني يعيش داخل حدود هذا الوطن المنكوب ، وقد أضحى الحصول على رغيف الخبز فيه مكسباً عظيماً ، ولا نريد ذكر المحروقات فهي للمترفين وأشباه المترفين الذين يملكون المركبات والدواب الحديدية الناقلة ، ومعاناة المواطنين لا تحتاج إلى دليل ، لكن ماذا يفعل المسكين إذا لم يجد من يحسّ بآلامه ، ولم يشعر بوجعه ومعاناته التي لم تنته بنهاية النظام السابق ، بل إزدادت أحواله سوءاً بعد سوء .
لا نملك ولا يملك المواطن الكريم سوى أن يرفع يديه للسماء ويدعو .. : ( اللهم أنت أكبر مما نخاف ونحذر ، نسألك يا الله يا رب العالمين أن ترفع الغمّة عن هذه الأمة وأن تصرف البلاء والوباء ، وأن تكفنا شرّ كل ذي شر .. إنك على كل شيء قدير . )
*صحيفة الأخبار السودانية النسخة الإلكترونية 4 أبريل 2020 م*