
لا أريد الحديث عن مصر (أم الدنيا) كما يفعل الآخرون ، فغالبيتهم يتناولونها بصخب الفن و سطحية الشعارات ، و كأنها مجرد مشهد عابر في فيلم طويل ، أما أنا فأريد الحديث عنها بما يليق بها كأمة عظيمة ، صنعت التاريخ ، و وهبت الدنيا رجالاً عظماء ، فلا يتم إختزالها في صورة ، ولا تحاصرها أكليشيهات ، فمصر هي مصر ، و ما أدراك ما مصر ؟ .. فهي ليست كلمة عابرة في دفتر أحوال الجغرافيا ، و لا هي رقم على خارطة التاريخ ، و أنما هي كائن حي نابض بالحياة ، فهي قلب الزمان إن أردنا ذلك ، و نواة الوجود حين تتهجى البشرية حروف نشأتها الأولى .
كثيرون من الناس إذا سمعوا عبارة (مصر أم الدنيا) ، ظنوه تعبيراً عن قدم حضارتها ، أو علو أهراماتها ، أو زخرف ملوكها ، أو سطوة التاريخ ، و ما علموا أن المعنى أعمق بكثير من تلك الظواهر ، و ألصق بالجوهر الأصيل .
(فأم الدنيا) ليست حجارة ناطقة ، ولا نقوشاً باهرةً ، بل هي امرأة حملت الحياة في رحمها ، و وهبت النور للوجود .
فمصر هي هاجر أم إسماعيل عليه افضل الصلاة و السلام، تلك المصرية المؤمنة ، التي شقت ببكائها ماء زمزم ، وسعت بين الصفا والمروة فرضة خالدة ، لتروِي نسل إبراهيم عليه السلام ، وتعانق المجد بسعيها .
و مصر هي ماريا القبطية ، أم إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، التي احتضنت بيت النبوة بلين وعفة ، فجعلها الله من نساء الجنة ، شرفاً لمصر أن تكون أمّا لابن من نسله كان خاتم النبيين .
ثم مصر هي كل امرأة مصرية بسيطة ، شقت طريق الحياة بعرق الجبين ، و ربت ، و علمت ، و خرجت أمماً ، وذرأَت أجيالاً ملأت بهم الأرض علماً و نوراً ، إنها أم الشيخ الطنطاوي و الجوهري ، و عبد الحميد كشك و الشعراوي ، و القرضاوي و محمد عبده و الشيخ ناصر ، و هي كذلك أم أبو كامل شجاع بن أسلم ، وأحمد زكي أبو شادي و أحمد زويل و السعفان و أشرف منصور و أمل أمين ، و هي أم كل عالم حمل في جعبته قبساً من نور الله ، وصوتاً من ضمير الأمة .
أم الدنيا لم يأتي ذكرها ككنيةً على سبيل التفضيل ، بل هي حقيقة مسطورة في الوجدان ، و محفورةٌ على صفحة إنسان يعرف قيمة مصر التي تنبض مع كل صرخة طفل في حاراتها ، وكل دعاءِ أم تسبح في ليالي الألم ، وكل شهقة عالِمٍ يضيء الكونَ من محراب علم نشأ في رحابها .
فمصر أم للدنيا لأن شهرتها تحققت بصلاح أمهاتها اللائي ولدن العلماء الافذاذ ، و صلاح المرأة في اي مجتمع يعني صلاح الدنيا و الآخرة ، و فسادها يعني فساد كل شيء ، فنساء مصر لا يلِدن أطفالاً فقط ، و أنما يلدن أمماً ، و مصر ترضع أبناءها عزةً ، وتهدهدهم بأناشيد الفخر ، وتلقنهم مع اللبن حب الأرض ، وحكمة الأولين .
فمصر يا سادة لا تقاس بأهراماتها و إن علت ، و لا توزن بنيلها و إن جرى بإنسياب دون إنقطاع ، فمقياس مصر الحقيقي بصلاح نسائها و بأمهاتها اللائي ولدن عظماء الرجال ، و ربينهم ، و زرعن فيهم أخلاقاً حميدة ، فسموا بها و كانوا بعطائهم أقرب للسماء علواً .
الإعلام المصري ، عبر تاريخه الطويل ركز على الجوانب الفنية ، و استعرض في واجهته الراقصات ، و الممثلات ، و نجوم الشاشات ، حتى كادت صورة مصر تختزل في مشهد سينمائي أو رقصة استعراضية ، و مع كامل الاحترام لأهل الفن ، و لكنهم لا يمثلون جوهر هذا البلد العريق ، فمصر أوسع من عدسة كاميرا ، وأعمق من مشهد تمثيلي ، فهي دولة عظيمة ، ذات رصيد حضاري ، و بشري قل نظيره .
مصر هي التي أنجبت علماء ملأوا الدنيا علماً ، و مفكرين أناروا العقول ، ودعاة حملوا رسالة الإسلام إلى الآفاق ، و مخترعين ، و أطباء ، و مهندسين كان لهم في كل ميدان بصمة وسبق ، فلا تحصروا مصر في ملفات الفن و اللهو ، فهي منجم طاقات بشرية لا ينضب ، و نهر عطاءٍ لا يغيض ، وعقل الأمة وروحها إذا جد الجد و استفز التاريخ .
وكم عدد هؤلاء ؟ ، ألف ؟ ، ألفان ؟ ، بل قل مليوناً ، أو أضعاف ذلك ، فمصر ليست بلداً محدود العطاء ، بل إنها تمثل أمة في ثوب دولة ، يقطنها ما يقرب من مئة و أربعين مليوناً ، كل واحدٍ منهم يمثل مشروع عقل مدبر و مفكر ، أو يد عاملة، أو قلب نابض بحب الوطن و الدين و الإنسانية ، ففي كل حارة من حواريها عالم ، وفي كل قرية من قراها نابغة ، و في كل بيت من بيوتها أم تصنع رجالاً ، فمصر ليست محض رقم سكاني تنطقه المعلومات ، و لكنها تعتبر من أهم الموارد البشرية التي قلّ أن يوجد له مثيل ، و التي يفيض علمائها على الأمة العربية و الإسلامية بخبراتهم وكفاءاتهم ، فتجدهم حيثما حلت بذور النماء ، فكيف نختزلها في مشهد راقصة ، أو نسجنها خلف كواليس الفن ؟ ، فمصر طاقة أمة متفجرة ، لا تختصر في صورة ولا تؤرخ في مشهد عابر .
فمن أراد أن يتحدث عن مصر ، فليتطهر أولاً ، و ليتمضمض ثلاثاً ، وذلك تطهيراً للسانه قبل أن يلفظ اسمها ، فهي ليست كأي وطن يذكر ، لأنها دولة لها في القلب قداسة ، وفي الوجدان مهابة ، و في التاريخ مقام رفيع ، فمصر ليست محض دولة على خارطة العالم ، بل هي فكرة ، و رسالة ، و ميراث حضارةٍ صنعها الأتقياء و الشرفاء ، و الأحرار ، و شعبها الأبي الأصيل ليس حشداً من الناس ، أو حشواً من العابرين ، فالشعب المصري هم أحفاد الصحابة ، وأبناء الذين واجهوا الطغاة وكسروا القيود ، فليصمت من لا يعرف قدر مصر ، أو فليطهر فاهُ قبل أن يتجرأ على الحديث عن أم الدنيا .
و الله من وراء القصد و هو الهادي إلى سواء السبيل