
في زمن تهتز فيه القيم وتتناقص فيه القامات، يخرج من رحم السودان فارس لا يُشبه إلا نفسه، يجمع بين عمق الدين، وشموخ الأخلاق، وحكمة الإدارة، وحنكة الاقتصاد، إنه معالي الدكتور جبريل إبراهيم، وزير مالية جمهورية السودان، وأحد أبرز رجالات الدولة في مرحلة من أعقد المراحل السياسية والاقتصادية التي تمر بها البلاد.
وليس سهلاً أن تتحمل عبء حقيبة المالية في وطنٍ ينزف من كل أطرافه، لكن الدكتور جبريل لم يتراجع، ولم يتردد، بل مضى بعزم من تعلّم الصبر في ثغور الجهاد، واكتسب الحنكة من محراب الفكر، ونال ثقة الناس والقيادة من منابر الخلق والتفاني.
عملاق من صميم القيم.
وُلد الدكتور جبريل إبراهيم في دارفور، في بيئة متواضعة، لكنها غنية بالمبادئ والقيم، فشبّ على حب العلم، وتمثل مكارم الأخلاق، وحمل في قلبه همّ السودان من صغره. تدرّج في مسيرته الأكاديمية حتى حصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد من واحدة من كبريات الجامعات اليابانية، وهناك مزج بين التراث السوداني الأصيل، والعقلية الآسيوية المنضبطة، ليعود إلى وطنه بفكرٍ ناضج وإرادة من فولاذ، إذ لم يكن الرجل مجرد أستاذ جامعي أو منظر اقتصادي، بل كان قائداً لحركةٍ تنشد العدالة والتنمية، فخاض غمار النضال السياسي بشجاعة، قبل أن يلتحق بركب الدولة بعد التغيير، ليكون أحد رموزها ومهندسي اقتصادها في مرحلة البناء والإصلاح.
الدين والخُلق القويم.
ما يميز الدكتور جبريل ليس فقط عقله الاقتصادي الحاد، بل قلبه العامر بالإيمان، ولسانه الذي لا يفتر عن ذكر الله، وتواضعه الجمّ الذي جعله محبوباً في أوساط العاملين معه، حتى من خالفوه الرأي، لم يُعرف عنه يومًا أنه ارتفع بصوته أو أساء لأحد، بل كانت مواقفه حازمة بلا صخب، راسخة بلا تعصب، يجيد الاستماع أكثر من الكلام، ويغلب عليه الورع، فاستحق أن يكون حارساً أميناً على مال الله في خزائن الدولة، كما وصفه الكثير من أهل السودان.
لقد شهد له أعداؤه قبل أصدقائه أنه رجل نظيف اليد، عفيف النفس، زاهد في حطام الدنيا، كل همه أن ينهض بالوطن، ويرتقي بمعاش الناس، ويوقف نزيف الهدر والفساد.
كلاش في قلب العاصفة.
حين تولى الدكتور جبريل وزارة المالية، كان السودان يعيش انهياراً اقتصادياً شبه كامل، انفلات في الأسعار، ارتفاع في التضخم، وعزلة دولية خانقة. لم تكن المهمة سهلة، لكنها لم تكن مستحيلة في نظر من تعوّد أن يصعد الجبال، فبدأ أمين المال جبريل بالإصلاحات الجذرية، فوضع موازنة دقيقة، وبدأ في ضبط الصرف الحكومي، وواجه تحديات الدعم وانفلات السوق، واضطرابات سعر الصرف، بكل شجاعة. لم يُلقِ اللوم على الظروف، بل حمّل نفسه المسؤولية، واتخذ قرارات صعبة في ظل غياب شبه تام للموارد،واستقطاب خارجي ضعيف، بحنكته المعهودة، أعاد الثقة في وزارة المالية كمؤسسة سيادية وطنية، وفتح أبواب الحوار مع الشركاء الإقليميين والدوليين، رافعاً راية السودان لا راية حزب أو تيار.
خيار من خيار.
وفي سودان اليوم، الذي تتنازعه الأهواء وتنهشه الحرب، يبقى الدكتور جبريل إبراهيم نموذجاً نادراً لرجل الدولة، القادر على أن يجمع بين الأمانة والشجاعة، بين الرؤية والتطبيق، بين الدين والاقتصاد، فهو آخر العمالقة في زمن قلّ فيه الرجال، رجل لا يتكرر، ولا يُشبه سواه، يكتب فصولاً من العزة بصموده، ويزرع الأمل في قلوب اليائسين بثباته تحية إجلال لهذا الرجل الذي أعاد لوزارة المالية مكانتها وهيبتها، ورفع راية النزاهة والشفافية، ورفض أن يبيع ضميره تحت أي ضغط أو إغراء.
عاد والعود أحمد.
لقد نذر الأمين جبريل نفسه للسودان، ووقف في الصف الأول مدافعاً عن خزينته، وحارساً لحقوق شعبه، فاستحق منا أن نكتب عنه بحروف من ذهب، وأن نقول له، مرحباً بك مرة أخرى فارساً حقيقياً، وحارساً أميناً لمال الله في خزائن السودان.
خير خلف لخير سلف.
يشار إلى أنه ومنذ خروج المستعمر، تعاقب على وزارة المالية السودانية رجال عظام حملوا أمانة الاقتصاد الوطني في أحلك الظروف. من أوائلهم أحمد السيد حمد، رجل الاستقلال والمؤسسات، ثم الشريف حسين الهندي، بذكائه الاقتصادي ووطنيته الراسخة. وفي عهد مايو، لمع نجم الدكتور إبراهيم منعم منصور، واضع أسس التخطيط المتكامل، وفي عهد الإنقاذ برز إسم الدكتور عبد الوهاب عثمان، بقوة شخصيته وخبرته العميقة في مجال المالالعام. كما أبدع الدكتور بشير عمر في ضبط السياسات المالية بأسلوب علمي منهجي. ثم برز الدكتور عبد الرحيم حمدي في عهد الإنقاذ أيضا، صاحب سياسة التحرير الاقتصادي الأشهر، وتبعه علي محمود الذي واجه التحديات بصرامة. وفي عهد لاحق، تصدى الدكتور بدر الدين محمود للملف الاقتصادي وسط أزمات متصاعدة. واليوم، يُعد الدكتور جبريل إبراهيم آخر هؤلاء العمالقة، إذ يحمل أمانة المالية في ظروف الحرب والانقسام، جامعًا بين الكفاءة والشفافية والخلق الرفيع.