منذ سنوات طويلة وأنا كصحفي مهتم بملف أبيي على وجه الخصوص أحذر بلا كلل من المخططات الهادفة إلى سلخ المنطقة عن جسد السودان وإلحاقها بدولة جنوب السودان وأبرز من قاد هذا المشروع عبر مسارات سياسية وفكرية وإعلامية هو الدكتور فرانسيس دينق ورفيقه دينق الور اللذان عملا بشكل دؤوب لصياغة سردية جديدة حول المنطقة تُعيد رسم صورتها التاريخية لتبدو زورًا جزءًا من الجنوب وليست من الشمال ورغم وضوح التاريخ والجغرافيا والوثائق والأعراف إلا أن ما يجري اليوم من تصريحات صادمة وآخرها من قائد ثاني مليشيا الدعم السريع عبد الرحيم دقلو يكشف أن الخطر لم يعد مجرد أفكار تُكتب ولا أوراق تُتداول بل انتقل إلى مستوى صفقات سياسية تُبرم وتنازلات خطيرة تُقدَّم مقابل الدعم العسكري ولو كان الثمن هو أرض سودانية خالصة مثل أبيي هذه ليست مبالغة… ما صدر عن عبد الرحيم دقلو ليس مجرد كلام عابر بل رسالة واضحة مفادها أن أبيي أصبحت على طاولة مساومة مكشوفة بين مليشيا تبحث عن البقاء ودولة جنوب السودان تبحث عن توسع سياسي وجغرافي وقوى إقليمية تبحث عن موطئ قدم استراتيجي مهما كان الثمن فحين يُقِرّ عبد الرحيم دقلو ضمنيًا في اجتماع نيالا بتبعية أبيي لجنوب السودان فإنه يفتح الباب لمخاطر لا تُحمد عقباها أهمها إضفاء شرعية على خطاب دولة الجنوب وبعض عناصر دينكا نقوك بشأن المنطقة وتشجيع قوى إقليمية ودولية لاستغلال الانقسام الداخلي السوداني وإضعاف موقف السودان التفاوضي في أي محفل دولي مستقبلي في شأن أبيي وإرسال رسالة سياسية خاطئة بأن أبيي ليست محمية بالإجماع السوداني وليس لها ظهر قوي فما قاله دقلو لا يمتلك أي قيمة قانونية لكنه يمتلك أثرًا سياسيًا بالغ الخطورة لأن الأطراف التي تنتظر هذه الإشارات تستغلها فورًا لتبرير المطالبات التاريخية الزائفة وما يحزن المرء ويحزّ في النفس أن بعض القيادات الأهلية من المسيرية ومن ضمنهم رؤساء الإدارة الأهلية في كردفان من نظّار وعمد ومشايخ ارتكبوا أخطاء جسيمة بمولاة مليشيا الدعم السريع فزعماء الإدارة الأهلية المعزولين بقرارات حكومية وعلى رأسهم من المسيرية الحُمر الفلايتة المرحوم عبد المنعم موسى الشوين (ناظر) وحامد محمد حامد البودة (وكيل النظارة) وبشير عجيل جودة الله (مقرر النظارة) وخريف رحمة أحمد (عمدة أولاد سرور)
وأحمد عزاز نور الضاوي (عمدة الزيود) ومحمد يوسف بحر (عمدة السلامات) وحمدان جار النبي (عمدة المتانين)
والحاج عبيد تم حامد (وكيل عمدة الجبارات) ومن المسيرية الحُمر العجايرة مختار بابو نمر (ناظر) وإسماعيل حامدين حميدان (وكيل النظارة) والدود محمد العبيد (عمدة أولاد كامل دار موته) وحامد عثمان محمد (عمدة المزاغنة)،
وصديق شنباية الشيخ (عمدة أولاد كامل الكلايته – غشيم)
والصديق حميدان عبد الجليل الصافي (عمدة أولاد كامل دار سالم)
وحماد خاطر جمعة (عمدة أولاد عمران أم تمدية) ومن المسيرية الزُرق الصادق الحريكة عز الدين حميدة (ناظر)
محمد حمدية البشر (وكيل الناظر) وموسى أحمد شايب (مقرر النظارة) وبالإضافة إلى العمد عثمان الفضل مصطفى (عمدة أولاد هيبان) وعمر شرفي حماد (عمدة العنينات)
وأحمد الطيب هارون (عمدة أولاد أم سليم)
لقد وضع هؤلاء الزعماء مستقبل قبيلتهم في يد ميليشيا الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) دون إدراك لحجم التهديد الذي يُمثله هذا التحالف على المسيرية ومصالحهم في أبيي ومن جانب آخر يتضح أن تسليح شباب دينكا نقوك والنوير بدعم من قيادات في الحركة الشعبية وبعض أبناء أبيي النافذين في جنوب السودان تحت ستار القتال في صفوف مليشيا الدعم السريع لم يكن محض مصادفة بل جزءًا من مشروع استراتيجي يهدف إلى فرض واقع ميداني يدعم ضم أبيي إلى الجنوب في ظل انشغال الدولة السودانية بصراعاتها الداخلية وانسحابها الفعلي من إدارة الملف
وقد وقعت الإدارة الأهلية للمسيرية في خطأ جسيم حين تحالفت مع مليشيا الدعم السريع ودفعت بشبابها إلى معارك خاسرة خدمت أجندات انفصالية لا علاقة لها بمصالح المسيرية هذا التحالف جعلهم في نظر الدولة خصوماً بدلاً من أن يكونوا شركاء واستنزف قدراتهم في صراعات هامشية بدلًا من التفاوض السياسي والتنسيق الدولي والحفاظ على قوتهم
وفي المقابل يواصل رئيس إدارية أبيي السفير شول دينق ألاك الدفع نحو تدويل قضية أبيي مستندًا إلى نتائج استفتاء أكتوبر 2013 الذي قاطعته قبيلة المسيرية وأسفر عن تصويت 99.98% من المشاركين لصالح الانضمام إلى دولة جنوب السودان بحسب النتائج المعلنة وهي مشكوك في صحتها وتسعى حكومة الجنوب بخُطب دعم الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي إلى ترسيخ هذه النتيجة واكتساب الشرعية الإقليمية والدولية ويُعد الصمت الرسمي من الحكومة السودانية والانقسام داخل صفوف المسيرية وعدم وجود رؤية موحدة من أبرز الأسباب التي فتحت الباب أمام هذه التحركات ويُشار أيضًا إلى اعتذار حميدتي الأخير لشعب جنوب السودان عن المجازر السابقة والذي فُهم على نطاق واسع كخطوة سياسية تهدف إلى استمالة جوبا حتى وإن كان ذلك على حساب قضايا حدودية حساسة مثل أبيي وعلى الصعيد الخفي من هذا المشهد فقد لعب كل من فرانسيس دينق ودينق ألور دورًا محوريًا في تنسيق جهود بعض عناصر دينكا نقوك مع ميليشيا الدعم السريع وهي الخطوة التي مهّدت لتسليح بعض شباب دينكا نقوك بأسلحة قدمتها الإمارات وكان الهدف بحسب مراقبين تنفيذ أجندة ياسر عرمان صهر قبيلة دينكا نقوك والذي يسعى إلى مشروع (السودان الجديد) الذي تبناه الراحل د. جون قرنق وقد استغل عرمان هذه التحالفات لتعويض خسارته العسكرية بعد إبعاده من جبال النوبة والحركة الشعبية وفي خطوة أحادية مخالفة للقوانين الدولية وجّه د. رياك مشار نائب رئيس دولة جنوب السودان المجلسين التنفيذي والتشريعي لإدارية أبيي التي عيّنتها جوبا لإجازة نتائج الاستفتاء الأحادي لعام 2013 والذي سبق أن رفضه السودان والمجتمع الدولي هذا القرار جاء عقب اجتماعات ضمّت مشار وشول دينق ألاك ودينق ألور وفرانسيس دينق تمهيدًا لرفعه إلى مجلس وزراء حكومة الجنوب للمصادقة عليه كما التقى مشار باللواء روبرت أفرام القائد المؤقت لقوات (اليونسفا) وطالبه بنشر شرطة جنوبية في أبيي بحجة التعامل مع اللاجئين في تحدٍّ صارخ لقرار مجلس الأمن رقم 2760 الصادر في 24 نوفمبر 2024 والذي يمنع أي قرارات أحادية بشأن أبيي إن كل هذه المؤشرات تدق ناقوس الخطر وتضع المسيرية أمام مفترق طرق فإما أن يتحركوا لحماية أراضيهم وحقوقهم التاريخية أو أن يستسلموا لمصير تُرسم ملامحه في دهاليز السياسة الدولية ويُعد تحالف الناظر مختار بابو نمر مع حميدتي أحد العوامل التي زادت من تعقيد الوضع، وساهم بشكل غير مباشر في دفع الأمور إلى هذا المنحدر الخطير وعلى عقلاء المسيرية أن يبادروا فورًا بتنظيم وقفات احتجاجية أمام مقر قوات (اليونسفا) والتواصل مع المجتمع الدولي للدفاع عن حقوقهم في أبيي إذا لم يتم تبنّي رؤية موحدة وحكيمة تستعيد العلاقة مع الدولة وتوقف نزيف الدم فإن أبيي قد تُفقد إلى الأبد وسيُسجّل التاريخ أن قبيلة عريقة دفعت بأبنائها للقتال من أجل وهم وخسرت الأرض مرتين مرة برصاص الخصوم ومرة بسوء الحسابات لقد رمت الإدارة الأهلية بثقلها خلف مليشيا الدعم السريع ومنحتها تفويضًا كاملًا، دون إدراك لحجم المخاطر الاستراتيجية التي ستقع عليهم هم أولًا ولقد قلتها مرارًا وتكرارًا تأييد الإدارة الأهلية للمليشيا… كان خطأً استراتيجيًا فادحًا فالمسيرية دفعوا وما يزالون أثمانًا باهظة فقدوا خيرة شبابهم وقادتهم الميدانيين في حرب ليست حربهم وتراجع حضورهم العسكري والسياسي في أرضهم التاريخية وبينما على الضفة الأخرى كان يتم تسليح شباب دينكا نقوك من الانفصاليين بهدوء وبتخطيط استراتيجي محكم ولا توجد سياسات واضحة لاحتضان دعاة الوحدة من أبناء دينكا نقوك
اليوم وفي اللحظة التي يخسر فيها المسيرية أبناءهم في نزيف الحرب يكون الآخرون قد كوّنوا قوة ضاربة يتم إعدادها لليوم الذي يُطرح فيه سؤال السيطرة على أبيي هل هذا صدفة؟ لا
إنه جزء من مشروع واضح… وقد ظللت أحذر منه منذ سنوات إن تسليح شباب دينكا نقوك هو أخطر تطور استراتيجي تشهده المنطقة منذ اتفاقية السلام الشامل لأنه يعني تكوين قوة محلية لها ولاء سياسي لدولة جنوب السودان وخلق توازن عسكري مختل داخل المنطقة وإضعاف المسيرية تدريجيًا عبر إنهاكهم في حروب خارجية ونقل الصراع من نزاع حدودي إلى نزاع مسلح يمكن أن يُفرض لاحقًا كأمر واقع.
وكل هذا يجري بينما بعض قيادات المسيرية تُعلّق آمالها على مليشيا تساوم بأرضهم نفسها في اجتماعات مغلقة وحين طرحت مليشيا الدعم السريع مشروعها لإعادة تقسيم السودان إلى ستة أقاليم لم يكن إلغاء ولاية غرب كردفان مجرد تفصيل إداري بل كان رسالة واضحة تعني تفكيك الوجود السياسي للمسيرية وإضعاف ثقلهم التاريخي في المنطقة وتهيئة وضع جديد يسمح بتمرير صفقات على أبيي وعدم الاعتراف بمطالبهم القانونية وتجريدهم من عمقهم الإداري والجغرافي وما صدر من عبد الرحيم دقلو حول أبيي ليس إلا المقابل السياسي الطبيعي لهذا الإلغاء ودولة جنوب السودان ليست جمعية خيرية ولا صديقًا عابرًا بل لديها مشروع واضح
ضم أبيي إلى الجنوب عبر كل الوسائل الناعمة والخشنة وهي اليوم تجد ضالتها في مليشيا منهكة تبحث عن الدعم وفي فوضى داخلية سودانية لم تُحسم بعد لذلك فتحت أراضيها للدعم السريع وسمحت بمرور السلاح والمرتزقة واستقبلت قيادات المليشيا سياسيًا وبدأت تُدير ملف أبيي بشكل أكثر عدوانية وما يحدث الآن هو استغلال لحالة السودان الداخلية لتحقيق مكاسب استراتيجية عمرها أكثر من 40 عامًا كثيرون يتوقعون خلال الفترة المقبلة أن ترفع الإمارات يدها تدريجيًا عن دعم مليشيا الدعم السريع، بعد أن استنفدت ضغوطها الإقليمية والدولية لكنها كما أؤكد دائمًا ليست مهتمة بأبيي كمنطقة شمالية أو جنوبية الإمارات تنظر إلى أبيي باعتبارها
منطقة ذات ثقل نفطي
وبوابة استراتيجية في قلب القارة ونقطة تحكم في الممرات التجارية ومساحة نفوذ يمكن الحصول عليها عبر وكلاء محليين وبالتالي فإن ضياع أبيي لن يُقلق الإمارات… لكنها تستفيد من ضعف من يسيطر عليها وعبد الرحيم دقلو وقادة مليشياه يستخدمون أبيي اليوم كـ ورقة مساومة لكسب دعم جنوب السودان العسكري والسياسي ولجلب مقاتلين من مرتزقة الدينكا ولخلق توازن ميداني لصالحهم في الحرب الحالية ولإظهار أنفسهم كشركاء يمكن التفاهم معهم في ملفات المستقبل كل ذلك يتم بينما تتآكل حقوق المسيرية وتتراجع مكانتهم الاستراتيجية
الحقيقة التي يجب أن تُقال بصوت عالٍ أبيي ليست هدية سياسية
ولا ورقة مساومة ولا صفقة بين مليشيا ودولة
ولا ملفًا يمكن بيعه أو تأجيره أو المقايضة به
أبيي أرض سودانية شمالية بالتاريخ والوثيقة والدم… وكل محاولة لإلحاقها بغير السودان هي خيانة سياسية قبل أن تكون خطأً وطنيًا على المسيرية أن يستيقظوا الآن… وليس غدًا إن كان من درس يجب أن يُفهم اليوم قبل الغد فهو أن إسناد مليشيا الدعم السريع كان خطأً استراتيجيًا سيدفع المسيرية ثمنه طويلًا إذا استمر وأن مستقبل المنطقة ومستقبل القبيلة ومستقبل التعايش ومستقبل الأرض كلها مهددة إن لم يتم تصحيح المسار والعودة إلى المشروع الوطني الكبير الذي يحفظ الأرض ويصون التاريخ ويمنع التفريط لقد قلتها لسنوات وأقولها اليوم بأعلى صوت أبيي تُنتزع عندما يضعف المسيرية… وتُحمى حين يتوحدون.
وها نحن نرى اليوم من يعمل ليلًا ونهارًا لإضعافهم من الداخل والخارج بينما يتم تقوية خصومهم عبر التسليح والدعم والإعداد الصامت إن بيان الهيئة الشعبية لمجتمع منطقة أبيي جاء في وقته… لكنه يحتاج الآن إلى موقف موحد من أهل المنطقة ضد كل من يتلاعب بمستقبلها سواء كان دولة أو مليشيا أو جهة خارجية
أبيي ستظل سودانية…
لكن الثبات على ذلك يحتاج إلى رجال يحمونها لا إلى من يساومون بها
ضل الحراز أبيي بين الحقيقة التاريخية والمساومة السياسية كيف يفتح عبد الرحيم دقلو الباب لمخططات قديمة؟ بقلم علي منصور حسب الله
