أزمات السودان المتلاحقة والمتكررة تسبب فيها الصراع السياسي حول السلطة حيث إنحصر الصراع في من يحكم السودان وليس كيف يحكم السودان؟!! الاتفاق الإطاري صنيعة خارجية جاءت بها الرباعية لتسليم السلطة لقحت حتى يتم تقسيم السودان بواسطة أبنائه غير الوطنيين. ما يدل على أن الاتفاق الإطاري ليس من مصلحة السودان أنه قد فرق بين المدنيين الذين صمم الاتفاق من أجلهم كما عمق الفرقة والشتات بين المدنيين والعسكريين كما فرق أيضاً بين العسكريين وهذا ما ترغب فيه القوي الخارجية. الاتفاق الإطاري صمم بحيث يجد فيه البرهان نفسه كما يجد فيه حميدتي نفسه. الاتفاق تضمن دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة وهذا ما يرغب فيه البرهان كما تضمن في نفس الوقت الاستقلالية التامة لقوات الدعم السريع التي يرغب فيها حميدتي. المبادئ العامة في الفقرة التاسعة تحدثت عن استقلالية الأجهزة النظامية كما تحدثت الفقرة الرابعة في الاتفاق عن الأجهزة النظامية التي تتكون من القوات المسلحة وقوات الدعم السريع وقوات الشرطة وجهاز الأمن العام والمخابرات. فإذا كان الاتفاق صادقاً في الدمج لماذا أورد اسم قوات الدعم السريع كقوة منفصلة عن القوات المسلحة طال ما هي تتبع للقوات المسلحة. بهذا الطعم الذي قدم للطرفين وقعا على الاتفاق الإطاري بدون رؤية استراتيجية لأن الشيطان يكمن في التفاصيل. ياسر عرمان عراب الاتفاق الإطاري وصف تصريحات البرهان الخاصة بالاتفاق أنها تمثل تراجعاً ونكوصاً على الاتفاق بينما الإطاري ليس اتفاقاً نهائياً ولكنه عبارة عن إعلان مبادئ عامة يتم الحوار حولها للخروج برؤية موحدة تقود الى اتفاق شامل لا يقصي أحداً. قحت تفاوضت في الاتفاق الإطاري مع من تتهمه بالإنقلاب عليها بينما رفضت الحوار مع من تتهمه بدعم الإنقلاب ألا يعبر ذلك عن نفاق وخداع سياسي وانتهازية سياسية وبرغماتية صارخة؟!! السؤال هنا: لماذا وصفت قحت الكتلة الديمقراطية بأنها قد دعمت الإنقلاب ولم توصف من قام بالإنقلاب بأنه هو الذي دعم ما تنادي به الكتلة الديمقراطية من توسيع لدائرة المشاركة التي ينادي بها البرهان أيضاً كما ينادي بها المجتمع الدولي. الإجابة على السؤال أعلاه واضحة هنا لأن العسكريين أعلنوا عدم رغبتهم في السلطة أما الكتلة الديمقراطية والحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا فإنها تتمسك بمشاركتها في السلطة بالنسبة التي نص عليها الاتفاق وهذا ما اغضب قحت لأنها ترغب في الأنفراد بالسلطة. قوة دفاع السودان تأسست في 1925م تحت ظل الاستعمار البريطاني إلا أن كل محاولات الجيش البريطاني المتتالية قد فشلت في تأسيس الجيش السوداني على المهنية العسكرية الغربية القائمة على فصل الجيش عن المجتمع والابتعاد من السياسة وجعله محبوساً في ثكناته بعيداً عن المجتمع وهذا يتنافى مع طبيعة التركيبة السودانية. في عام 1924م انضم العسكريون لإنتفاضة الحركة الوطنية المنادية باإستقلال السودان ومثل ذلك الإنحياز أول عمل سياسي للجيش يتم بالتنسيق مع السياسيين. كذلك تفاعل العسكريون مع الأحزاب السياسية في إنقلاب عبود وإنقلاب نميري وإنقلاب البشير وكل هذه الإنقلابات سياسية شارك فيها بعض العسكريين الذين استقطبتهم الأحزاب السياسية. مذكرة الجيش في عام 1989م تمثل تحولاً كبيراً في ممارسة الجيش للسياسة. كذلك إنحياز الجيش للشعب في عام 1964م و1985م و 2019م تمثل كل هذه الإنحيازات موقف سياسي للجيش. بالرغم من كل تلك الأدوار السياسية التي لعبها الجيش في الحياة السياسية السودانية إلا أن قحت ترغب في عودته للثكنات التي فشل الاستعمار البريطاني في فرضها على الجيش السوداني حيث تمرد الجيش على ذلك وقام بالانفتاح على المجتمع بالمشاركة في المناسبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية. ناشطو قحت وصحفيوها الماجورين يجهلون كل هذه الحقائق ويرغبون من خلال شعاراتهم الجوفاء التي تنادي بعودة (الجيش للثكنات والجنجويد تنحل) يرغبون في إبعاد الجيش من المشهد السياسي. ابعاد المجتمع الدولي للجيش السوداني من المشاركة في العمل السياسي أسبابه معروفة لأن الجيش وقف سداً منيعاً ضد مخططاتهم لتقسيم السودان. أما ابعاد قحت للعسكريين من المشاركة في السلطة فأسبابه أيضاً معروفة لأن الجيش لا يسمح لناشطي قحت بالأنفراد بالسلطة بدون انتخابات. الجيش ليس معزولاً عن شعبه ولهذا لم يعرف الهزيمة في تاريخه الحافل بالبطولات والتضحيات. الجيش مهموم بقضايا شعبه عكس السياسيين الذين ينحصر كل همهم في الحفاظ على كراسي السلطة بدون وضع أي اعتبار لقضايا المواطنيين. لكل هذا فإن المواطنيين أصبحوا لا يهتمون بزوال حكم السياسيين ولكنهم يندمون على زوال حكم العسكريين كما عكس ذلك شعاراتهم التي رفعوها ومنها(ضيعناك وضعنا وراك يا عبود) و(عائد عائد يا نميري)و(أب عاج ولا النعاج)و(يا حليل بشه) ومنهم من نادى بإطلاق صراح البشير صباحاً لإدارة شؤون الدولة وعودته مساءاً للسجن!! ناشطو قحت وصحفيوها الماجورين هللوا وكبروا وفرحوا بالاتفاق الإطاري الذي أبعد لهم العسكريين من المشهد السياسي الى الأبد وفات عليهم بأن مشاركة العسكريين في السلطة في كل دول العالم الثالث تعتبر أكثر من ضرورة من أجل حفظ الأمن والاستقرار السياسي بالبلاد لأن هذه الدول لم تحقق اجماعاً قومياً أو تألفاً في نسيجها الداخلي بالإضافة لما تعانيه من مشاكل الصراع على السلطة والمشاكل القبلية والجهل والتخلف والمرض والفقر ولكل هذا فإن مشاركة العسكريين في السلطة في دول العالم الثالث تعتبر أكثر من ضرورة كما إن العسكريين يشاركون في السلطة في كل الدول الديمقراطية بكفاءتهم المهنية وليس بصفتهم العسكرية. متى يدرك ناشطو قحت وصحفيوها الماجورين أن طبيعة العمل العسكري ذات صبغة سياسية في المقام الأول لأن طبيعة الصراعات الدولية سياسية وإذا لم تحسم عن طريق السياسة والدبلوماسية فإنها ستحسم بواسطة القوة العسكرية وتقاس كفاءة القوة العسكرية بما تقدمه للقوة السياسية من مساعدات تجعل القرار السياسي للدولة نافذاً. في هذا الإطار قال المفكر الاستراتيجي كلاوفتز(إن القوة السياسية والعسكرية للدولة وجهان لعملة واحدة يكملان بعضهما البعض وكلاهما يتطلع الى ما وراء الحدود وكلاهما يبحث ويهتم بقدرات الأخرين). تشمل عناصر القوي الشاملة للدولة القوة السياسية والقوة الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والعلمية التقنية وبتكامل كل تلك العناصر تتم صناعة الاستراتيجية الوطنية للدولة. القوة العسكرية تعتبر القوة الرئيسية لبناء الاستراتيجية الوطنية للدولة ومع كل ذلك تسعى قحت لإبعاد العسكريين من المشهد السياسي. الوثيقة الدستورية المعيبة التي قامت عليها الشراكة والاتفاق الإطاري الإقصائي كلفا القوة العسكرية مسؤولية حماية الأمن القومي ولا أدري كيف يمكن تحقيق ذلك والإطاري يبعد العسكريين عن المشهد السياسي؟!! مشكلة السودان الكبرى أن الذين تولوا السلطة في اليلاد بعد التغيير لا يعرفون ماذا يفعلون بها لأنهم تفاجأوا وذهلوا لأنهم أصبحوا فجأة في موقع السلطة والمسؤولية بلاء برنامج سياسي أو رؤية استراتيجية لإدارة شؤون الدولة فاصبحوا يتخبطون في إجراءاتهم ويتبادلون اتهامات الفشل من ما تسبب في الموقف المازوم الحالي. الخروج من هذا النفق المظلم يتطلب دعوة الكتل الرئيسية الثلاث لطاولة المفاوضات لمناقشة الاتفاق الإطاري والإعلان السياسي المدسوس وما خرجت به ورش فولكر وورشة جوبا وورشة القاهرة للخروج بتفاهمات مشتركة تقود لوفاق وطني شامل. كذلك ينبغي النظر الى الرؤية الاستراتيجية التي نادى بها مجلس حكماء السودان ومبادرة ميثاق شعب السودان لأن هاتين المبادرتين قدمتهما كفاءات وطنية مستقلة واكاديميون لا خلاف حول وطنيتهم. إذا تعذر كل ذلك فعلى البرهان الاسراع في تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة يشارك فيها وزراء الحركات الموقعة على اتفاقية سلام جوبا لإدارة ما تبقى من الفترة الانتقالية وإجراء الانتخابات. تهديدات الفريق عبد الرحيم الأخيرة لا تشبه المواقف الوطنية لقوات الدعم السريع في حفظ الأمن والاستقرار في البلاد ولكنها تشبه ياسر عرمان عدو السودان وعدو السلام الذي يسعى لإحداث الفتنة والوقيعة بين الجيش وقوات الدعم السريع. الخلافات بين العسكريين انطلقت بعد أن أصبحت قوات الدعم السريع تلعب أدواراً سياسية بعيداً عن المؤسسة العسكرية وهذا ما لا تقره القوانين والنظم العسكرية. اللجنة الأمنية التي شكلت مؤخراً لتجاوز هذه الخلافات غير مجدية وهي عبارة عن هروب من المسؤولية لأن الخلافات توجد على مستوى القيادة ولا يمكن معالجتها بواسطة القاعدة. الاتفاق الإطاري صناعة خارجية وهو فخ نصب للشريكين اللذان توليا السلطة في البلاد في غفلة من الزمن. الطرفان وقعا على الإطاري بضغوط خارجية كما صرح حميدتي بذلك وهذا يعني أنهما قد وقعا مجبرين ومكرهين على اتفاق ليس فيه مصلحة للسودان. كان ينبغي على الذين وقعوا على الاتفاق الإطاري بدون تفويض شعبي أن يواجهوا الشعب بالحقيقة ليستنفروا إرادته الوطنية لمواجهة الإرادة الخارجية بدلاً من تغليب الإرادة الخارجية على الإرادة الوطنية. خلاصة القول: الحكم ليس حصرياً على المدنيين وليس حكراً للعسكريين. نظام الحكم المناسب للسودان هو النظام المختلط. إقصاء العسكريين من المشهد السياسي خطأ استراتيجي تدفع البلاد ثمنه غالياً والأيام ستبرهن على صحة ذلك.الدول تبنى بمشاركة كل أبنائها مدنيين وعسكريين وفقاً للكفاءات المهنية والوطنية والإخلاص في العمل. ختاماً: ناشطو قحت غير جديرين بالحكم لأنهم رهنوا مصير ومستقبل السودان للقوي الخارجية.وبالله التوفيق.