وجه الحقيقة إبراهيم شقلاوي السودان والصين بعيدًا عن المزايدة السياسية

تشهد العلاقات السودانية الصينية حالة من الثبات الاستراتيجي والتطور المتدرج، تجعلها نموذجاً نادراً في العلاقات الدولية المنتجة، حيث تتجاوز هذه العلاقة المنفعة المتبادلة لتلامس مفهوم “الشراكة المصيرية”، خصوصاً في ظل الأزمات المعقدة التي يمر بها السودان اليوم. فمنذ اعتراف الخرطوم المبكر بجمهورية الصين الشعبية في خمسينيات القرن الماضي، رسّخت بكين حضورها كحليف يُراهن عليه في أكثر لحظات السودان حرجاً، بعيداً عن منطق الابتزاز السياسي أو التبعية الاقتصادية.

غير أن هذه العلاقة، رغم ما تحمله من مؤشرات القوة والاحترام المتبادل، لم تسلم من حملات التشكيك التي تتبناها بعض الأصوات الناشطة في الفضاء السياسي، والتي قرأت الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها بكين مؤخراً – عقب الهجمات على بورتسودان – باعتبارها مؤشراً على تخلٍّ محتمل أو بداية فتور في العلاقات، بشأن طلب الصين من رعاياها مغادرة السودان. هذا الحدث، وإن بدأ في ظاهره إجراءً احترازياً، فتح الباب أمام تأويلات سياسية وأمنية، استثمرها ناشطون لتوجيه سهام الاتهام نحو بكين، بل وصل الأمر ببعضهم إلى الطعن في نزاهة العلاقة بين السودان والصين.

إلا أن الواقع بحسب توضيحات القائم بالأعمال الصيني التي نقلتها “براون لاند نيوز”، ووفق تصريحاته، لم يصدر أي قرار بإجلاء شامل أو طارئ لرعايا الصين، لا براً ولا بحراً. وهو ما يؤكد أن الحديث عن فتور أو انهيار في العلاقات بين البلدين لا يستند إلى وقائع ملموسة، وأن الشركات التي تعمل ما تزال تمارس أنشطتها دون أن تتأثر بمجريات الأحداث.

في السياق، ورغم ما يجمع السودان والصين من علاقات استراتيجية وتمسك الصين بمبدأ عدم التدخل، فإن تطورات المشهد السوداني أحرجت بكين على صعيدها الأخلاقي، خاصة بعد صدور تقارير دولية تحدثت عن استخدام مليشيا الدعم السريع لأسلحة صينية المنشأ في نزاع دارفور. وأن هذه الأسلحة قد وصلت إلى السودان عبر دولة ثالثة، هي الإمارات، التي يُتهم تحالفها مع مليشيا الدعم السريع بأنه خرق مباشر لحظر الأسلحة المفروض على دارفور من قِبل الأمم المتحدة. وعليه، فإن بكين، وإن لم تكن مورداً مباشراً، تجد نفسها الآن أمام مسؤولية أخلاقية وقانونية، بحكم عضويتها في معاهدة تجارة الأسلحة (ATT)، التي تُلزم الأطراف بمنع استخدام منتجاتها في انتهاكات حقوق الإنسان أو في مناطق النزاعات المسلحة.

هذا التناقض بين الخطاب السياسي الصيني وسلوك السوق المفتوح الذي تعتمده شركاتها الدفاعية، يفرض على بكين مراجعة آليات مراقبة تصدير السلاح ومحاسبة الشركات التي تخرق هذا النهج، لأن استمرار هذا الانفصام قد يُضعف مصداقية الصين كقوة دولية تحاول أن تطرح نموذج سياسي أخلاقي مغاير للنموذج الغربي.

بالرغم من ذلك، ما زالت الصين تحتفظ برصيد من الثقة لدى غالبية النخب السودانية، نظراً لنهجها الذي لم يعرف التقلب أو الاستغلال، ولِما قدّمته من دعم في قطاعات النفط والبنى التحتية خلال فترات الحصار والعزلة. هذا الإرث جعل من زيارة الرئيس عبد الفتاح البرهان إلى الصين في سبتمبر 2024 خطوة بالغة الدلالة، خصوصاً أنها جاءت في توقيت يعيش فيه السودان تحديات وجودية بسبب الحرب وتداعياتها السياسية والاقتصادية.

وقد نجحت الزيارة في إعادة تعريف العلاقة ضمن إطار “الشراكة الاستراتيجية المتجددة”، من خلال توقيع اتفاقيات متعددة شملت مجالات الطاقة، والتعدين، وتطوير الموانئ، والنقل الكهربائي، وصولاً إلى التعاون الدفاعي مع شركة بولي الصينية، ضمن سعي السودان لبناء قدرات دفاعية ذاتية لا تخضع للإملاءات الخارجية.

العبرة اليوم ليست في استدعاء الماضي أو الدفاع عن الحاضر، بل في رسم مسار مستقبلي للعلاقات السودانية الصينية يحقق المعادلة الصعبة: الاستفادة القصوى من الحليف دون الارتهان له، والتأكيد على أن السودان، برغم ظروفه الراهنة، ما زال رقماً فاعلاً في المعادلة “الجيوسياسية”، خاصة بموقعه الحيوي على البحر الأحمر وموارده الطبيعية غير المستغلة.

وعليه، وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، يبقى من الحكمة ألا تُختزل العلاقة السودانية الصينية في مزايدات سياسية. فالصين كانت وستظل حليفاً استراتيجياً حقيقياً للسودان عبر التاريخ، خاصة خلال الحصار الأميركي. وقد لعبت دوراً محورياً في قطاع النفط والسدود والكهرباء والبنية التحتية، وظلت تُراعي السيادة السودانية في جميع تعاملاتها. العلاقة بين الصين والسودان أقرب إلى أن تكون علاقة شراكة وجودية، لا علاقة مصالح عابرة. التحدي الأكبر أمامها هو الحفاظ على طابعها الأخلاقي والبراغماتي في آنٍ معاً، بعيداً عن تأثيرات الناشطين أو المخذّلين، لأجل تكامل مصالح الشعبين واستراتيجية العلاقات المشتركة.

دمتم بخير وعافية.
السبت 10 مايو 2025م Shglawi55@gmail.com

الحاكم نيوز وجهة جديدة في عالم الصحافة الرقمية المتطورة... سرعة اكتر مصداقية اكتر دقة وانتشار للخبر والإعلان ..™

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنان + 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى