جاءت مشاركة رئيس الوزراء د. كامل الطيب إدريس، في جلسة مجلس الأمن ، بطلبٍ من حكومة السودان، قدّم من خلالها رئيس الوزراء “مبادرة للسلام ”، التي مثلت رؤية شاملة لإنهاء الحرب، ومعالجة تداعياتها الإنسانية والسياسية والأمنية، واستعادة الدولة.
ظاهريًا بدأ الخطاب متماسك البنية، واضح المطالب، منضبط اللغة، ومُحمّلًا برسائل تطمين للمجتمع الدولي. غير أن القراءة السياسية المتأنية تكشف أن المبادرة في مضمونها وسياقها ومنبر طرحها، تقع في منطقة رمادية، دعونا في هذا المقال نحاول تفكيك جميع السياقات لفهم المبادرة.
جاءت إحاطة مجلس الأمن حول السودان لتكشف حجم الأزمة وتعري النظام الدولي. فالمداولات وتقارير الأمم المتحدة التي وُضعت على الطاولة كانت كافية من حيث الوقائع والمعايير القانونية و الأخلاقية لتصنيف مليشيا الدعم السريع كمنظمة إرهابية، غير أن هذا لم يحدث، ذلك لعجز المجلس عن اتخاذ قرارات تتجاوز الإدانة الشكلية.
عليه ما حدث داخل القاعة يعكس الحقيقة المرة: مجلس الأمن ليس سلطة قانونية ، بل مساحة رخوة بين مصالح متقاطعة، حيث تُقايَض العدالة بالنفود ، وتُجمَّد القرارات إذا ما تمسّك أي طرف بداعم خارجي محمي.
وسط هذه الأجواء المخزية قدم رئيس الوزراء د. كامل إدريس مبادرة الحكومة السودانية، كما قال : لا تنطلق من “وهم النصر”، بل من مسؤولية وطنية وأخلاقية لوقف النزيف، وحماية المدنيين، واستعادة سلطة الدولة.
وهي صيغة تحظى بقبول قانوني وأخلاقي ، لكنها سياسيًا تتجاهل توصيف الحرب بوصفها عدوانًا خارجيًا مُدارًا بالوكالة. حيث أضاع ادريس فرصة التأكيد علي ما قاله المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك حين وصفها بأنها حرب تدار بالوكالة طمعا في الموارد الطبيعية.
فالسودان وفق الوقائع الميدانية والوثائق يواجه حربًا مركبة تُغذّيها شبكات إمداد بالسلاح، ومرتزقة عابرون للحدود، ودعم لوجستي ومالي معلوم المصدر. ومع ذلك غابت عن خطاب رئيس الوزراء الإشارة الصريحة إلى دور دولة الإمارات، أو إلى ملف المرتزقة الأجانب، رغم أن المنبر كان يسمح بوضع هذه الحقائق على طاولة المجتمع الدولي.
هذا الغياب يمثل إخفاقًا سياسيًا في لحظة كان يمكن تحويل الخطاب من مجرد عرض مبادرة إلى اتهام مدروس يستند إلى القانون الدولي. لذلك فُسّر باعتباره محاولة لفتح مسارات خلفية مع الأمارات برعاية أمريكية – سعودية، خاصة في ظل الحديث عن ترتيبات تجري الآن في واشنطن بالنظر إلى ما أعلن عن إجازة طويلة لرئيس الوزراء قد تمتد لأسبوع.
من حيث الجوهر، لم تأتِ المبادرة بجديد نوعي عدا إجراءات بناء الثقة ، مقارنة بما ورد في إعلان جدة 11مايو 2023 أو خارطة الطريق الحكومية المقدمة للأمم المتحدة في مارس 2025. فوقف إطلاق النار المشروط بانسحاب المليشيا، والتجميع في معسكرات، ونزع السلاح، وبرامج الـDDR، والعودة الطوعية للنازحين، والعدالة الانتقالية، كلها بنود معلنة سابقًا، ولم تلتزم بها مليشيا الدعم السريع. السؤال هنا : ما الذي تغيّر في ميزان القوة أو البيئة الدولية ليجعل هذه البنود قابلة للتنفيذ الآن؟
واضح أن رئيس الوزراء اختار المنبر الخطأ… والتوقيت الأضعف مجلس الأمن ليس منصة تفاوض، ولا جهة لاعتماد المبادرات الوطنية. طرح مبادرة في جلسة إحاطة، دون رعاية مسبقة من دولة أو تكتل ضامن لتمريرها، يجعل الخطاب ينتهي بانتهاء الجلسة، وهو ما حدث فعليًا.
زاد من إشكالية المشهد: انعقاد الجلسة في توقيت ميت سياسيًا “نهاية العام”. ضعف الترتيب الإعلامي، وغياب مؤتمر صحفي دولي كان يمكن ترتيبه، لإسناد المبادرة. والأخطر: فشل بعثة السودان في طلب حق الرد على مندوب الإمارات، لتُختتم الجلسة باتهامات خطيرة دون إجراءات رسمية.
إشكالية أعمق تطرحها المبادرة تتعلق بمفهوم “المبادرة” نفسه. فمن الناحية السياسية، الطرف المعتدى عليه لا يُبادر بمعنى تقديم التنازلات أو فتح المسارات، بل يطرح رؤيته للتعامل مع مبادرات تُعرض عليه، أو يطالب بضمانات لوقف العدوان. لذلك حين تقدم الحكومة، وهي معتدي عليها ، مبادرة دون تسمية المعتدي وداعميه، فإنها من حيث لا تقصد، تعيد تعريف الصراع بوصفه “أزمة داخلية قابلة للتسوية السياسية”، وهو تعريف يخدم الخصوم ولا بخدم الدولة.
في ظل هذا الإرباك الداخلي، لا يمكن استبعاد أن تكون المبادرة جزءًا من ترتيبات إقليمية ودولية، وربما محاولة لإظهار عدم ممانعة الحكومة للتفاوض، ووضع شروطها بدل أن تُفرض عليها. هذا تكتيك مفهوم. غير أن الخطر يكمن في: إرباك الجبهة الداخلية والتأثير على معنويات القوات التي تقاتل في الميدان. لأن السلام في الحالة السودانية، لا يمكن أن يُنتج خارج معادلة الميدان. وأي مسار سياسي غير مسنود بتغير حاسم في ميزان القوة سيظل هشًا، وقابلًا للاختراق و الابتزاز.
المبادرة تعكس حسن نية سياسي ، لكنها تعاني من قصور استراتيجي. فهي متماسكة لغويًا، ضعيفة تكتيكا، ومحدودة الأثر مالم تحظي بإسناد ميداني وسياسي و إعلامي مؤثر . غير أن نجاحها يظل مرهونًا بثلاثة شروط مهمة : تقدم ميداني وازن يعيد تعريف ميزان القوة. تحول دولي حقيقي في التعامل مع داعمي المليشيا الإقليميين . وضوح الخطاب الرسمي في توصيف الحرب كعدوان خارجي لا نزاع داخلي. غير ذلك سيظل الحال مبعثرا بين منابر دولية عاجزة ومبادرة وطنية مرتبكة.
ختامًا وبحسب #وجه_الحقيقية ، لا تبدو المبادرة قفزة في الظلام، لكنها أيضًا ليست طريقًا مضمونًا للسلام. هي محاولة لإعادة التموضع السياسي والدبلوماسي ، وتثبيت شروط الدولة على الطاولة، بدل أن تُفرض عليها.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 24 ديسمبر 2025م Shglawi55@gmail.com
