☘️🌹☘️
**
لم تكن أحداث دنقلا الأخيرة شيئاً كان مستبعداً ، فمنذ بدء عملية تحييد قوات أولاد قمري عبر دمج غالب أفرادها في صفوف القوات المسلحة ، ومنحهم أرقاماً عسكرية ، كان واضحاً أن الدولة تمضي في إتجاه نقل هذه القوة من مربع التفلت إلى مربع الانضباط ، وكان مفهوماً منذ البداية أن أي خروج لاحق عن هذا المسار سيمثل تمرداً على المؤسسة العسكرية التي درجت بطبيعتها على محاولة إحتواء من يخرج عن طوعها أولاً بالحسنى ، قبل أن تعمل بالقسوة المشروعة إذا رفض الانصياع لسلطتها القانونية .
فالذين تحصلوا على أرقاماً عسكرية من هذه القوات أصبحت تبعيتهم مباشرة للفرقة 19 مشاة وفق الإجراءات الرسمية المعتمدة ، بينما إلتحق من تبقى منهم بالمقاومة الشعبية، وذلك تنفيذاً لتوجيهات قيادة الولاية التي سعت إلى ضبط المشهد الأمني وتقنين حركة جميع القوات المستنفرة التي تحمل السلاح .
لكن الفئة التى إعتادت على التفلت وعدم الانضباط العسكري ظلت تبحث عن مواقع بديلة تتهرب عبرها من الضبط والربط الذي يفرضه الجيش على كل منسوبيه ، وهو إنضباط لا يطيقه المتفلتون بطبيعتهم ، ومن هنا إتجهت هذه المجموعة بقيادة التوم قمري إلى قوات كيكل معلنة إنضمامها إليها. وقد رُحب بهم هناك ، لكن كيكل دفع بهم مباشرة إلى خطوط النار الأمامية ، فكانت تلك هي الحظة الحقيقة لإختبار صدقهم مع الوطن ، فمواجهة العدو ليست كالتجوال والإستعراض في المدن ، وليس كالانخراط في أعمال الهمبتة والتهريب .
ذلك الواقع الصادم دفعهم إلى العودة مجدداً إلى دنقلا ، لكنهم عادوا هذه المرة بابتداع رتب عسكرية لا تستند إلى أي إطار قانوني ، ويمثل ذلك خرقاً صريحاً لنصوص قانون القوات المسلحة ولضوابط الخدمة النظامية .
ومع استلام الجنرال المدفعجي عبد الرحمن عبد الحميد إبراهيم سدة سلطة الولاية ، أصبح واضحاً للجميع أن زمن المساومات قد إنتهى ، وعلى كل فأر أن يدخل جحره ، فالرجل جاء وهو يحمل هم واحد ، لا سلاح خارج سلطة الجيش ، ولا مظاهر عسكرية خارج النظام والانضباط ، ومنذ اليوم الأول شدد على فرض هيبة الدولة وضبط المشهد الأمني ، وهو نهج لم يعجب أولئك الذين اعتادوا على الحركة بلا رقيب .
لقد ظلّ أفراد المجموعة المتفلتة من أولاد قمري يتحركون في محيط منطقة الأبيار ، وكان قبلها منطقة المثلث ، يمارسون تجاوزات كانت معلومة للجميع ، ما إضطر لجنة الأمن إلى إرسال قوة رسمية لضبط الوضع في تلك المنطقة ، لكن قائد المجموعة تمكن من الإفلات لأنه يعرف جغرافية المنطقة جيداً ، واتجه نحو دنقلا ، معتقداً أن وجوده وسط قواته هنالك سيمنحه القدرة على إبتزاز الجيش وفرض شروطه .
دخل المدينة مرتدياً رتبة مقدم مزيفة ، معلناً من داخل قيادة القطاع نفسه أنه لا يتبع لأي جهة ، وأنه سيتصدى لأي قوة تقترب منه … فمثل هذه الجرأة لا يفعلها إلا من أخذته العزة بالإثم وظنّ أن الدولة ضعيفة ويمكن إبتزازها ، وفرض نفسه عليها بالقوة .
لكن القوات المسلحة ، وتحديداً قطاع دنقلا العملياتي ، قدم درساً مهنياً في كيفية إدارة الأزمات ، إذ رفض الاشتباك داخل الأحياء السكنية حفاظاً على المدنيين ، وهو ما أغرى قائد المجموعة (التوم قمري) بالاستعلاء واعتبار أن في الأمر تراجعاً وضعفاً ، الشيء الذي جعله يخرج متبختراً إلى أن وصل قبالة الميناء البري في منطقة مفتوحة في تحدي سافر ، فأوقفتهم قوة من الجيش بتعليمات واضحة (سلّم نفسك وسلاحك فوراً) .
لكن هذه المجموعة إعتادت على التفلت ، وبادرت بإطلاق النار ، فكان الرد العسكري حاسماً ومهنياً ، إستشهد أحد جنود القوات المسلحة خلال الاشتباك ، وقُتل عدد من أفراد المجموعة ، وأصيب قائدهم التوم قمري وتم التحفظ عليه ونقله للمستشفى لتلقي العلاج ، على أن تتم محاكمته لاحقاً وفق قانون القوات المسلحة .
وفي لحظات تلت هذه العملية مباشرة ، تمّ إستلام غالبية العربات التي تخص هذه المجموعة المتفلتة بكامل موديلاتها وعتادها ، وكما تم إستلام الأسلحة الثقيلة والخفيفة ، وفرض قطاع دنقلا سيطرته الكاملة على المدينة ومحيطها .
هذه العملية النوعية التي تم حفرها بالإبرة تمثل إعادة رسم لخطوط السلطة بالولاية ، وكانت بمثابة رسالة واضحة لكل من يحمل السلاح بالشمالية خارج إطار الجيش ، فالقوات المسلحة تحترم الصمت في هذا الظرف الاستثنائي ، ولكنها لا تقبل لغة التحديات والعنتريات والنفخة الكاذبة .
ويبقى السؤال الذي يتردد اليوم على ألسنة مواطني دنقلا : هل كما فُرضت هيبة الدولة على ذلك (البعبع) الذي جثم على صدور أهل الولاية ردحاً من الزمان ، سيُفرض ذات الحزم على التعدي من قبل قائد المجموعة على حرم الطريق القومي؟ ، ذلك المكان الذي جرى الاستيلاء على أراضيه بوضع اليد وبالقوة ، وشُيدت عليه مباني بلا وجه حق ولا تراخيص من السلطات المختصة .
مواطنو الولاية يترقبون اليوم قبل الغد رداً واضحاً وقوياً من سعادة الأستاذ مكاوي الخير الوقيع المدير التنفيذي لمحلية دنقلا ، فالجميع ينتظرون عدلاً متوازناً يطال الكل بلا استثناء ، وبذات الصرامة التي تعيد للدولة هيبتها وللقانون احترامه .
التحية والتقدير للجنرال المدفعجي ، الرجل الذي يعمل بصمت شديد ، ويفعل قبل أن يتحدث ، إنه أحد أعضاء مدرسة الصبر ، والدقة في الأداء والتنفيذ ، و(الحفر بالإبرة) ، والتحية كذلك لأعضاء لجنة أمن الولاية الذين رسخوا الانضباط ، وقطعوا الطريق أمام فوضى السلاح ، وأعادوا الاعتبار لعبارات غابت عنا ، وكانت خجولة إذا نطقنا بها : (الدولة قائمة ، ولن تتراجع ، ولن تخضع لكائنٍ من كان) .
نصر من الله و فتح قريب و بشر المؤمنين
