يوسف عبدالمنان يكتب : أحلام العودة إلى الخرطوم… أفراح وأتراح من سرق البريق من عيون الصبايا لن يعود حاكمًا فينا

ما بين أحلام العودة إلى الوطن، والحنين إلى مدينتي وأهلي وعشيرتي، وبين ذكريات الأمس التي اندثرت، والحلم الذي طواه غدر الغادرين، يحلم الملايين بالعودة إلى الخرطوم وأم درمان. لكن من سرق البريق من عيون أطفالهم، ولفظهم بعيدًا عن وطنهم، يقتل هذا الحلم كل صباح، حين يرسل الطيران المسيّر ليقصف قلب الخرطوم، وأحشاء أم درمان، وكبد بحري.

لقد قرر أن يصادر حقنا في العودة إلى بيوتنا من الطين والطوب، ويبقينا لاجئين ونازحين، حائرين في طرقات المدن، ونحن نتوق لرمال توتي وناس الكلاكلة… يا حليلهم، بعد أن تركوا بلدهم وذهبوا إلى بلاد لا تشبههم. الخرطوم وأم درمان، رغم ما حلّ بهما من دمار وانتهاك، تظلّان ملهمتين، كما قال الشريف زين العابدين الهندي، الذي أكرمه الله بالرحيل قبل أن يُفجع مع المفجوعين:

> فيكِ أم درمان وفيكِ الأسكلة وستين
> وعازة ألفي هواك نحن الجبال ثابتين
> يا فلق الصباح قول لي نهارك وين
> ونرعاك في الفؤاد بعناية الحارسين
> يا كروان كرومة، خليل فرح مايلين
> يا ود الرضى، القلبو انقطع نصين
> ترى العبادي ماسك الدابي بالإيدين
> ود الريح شارك عتيق حبلين
> داك الأمي والمسّاح، عريس أم زين
> وفيكِ الحاج سرور غنّى “الفراق لمتين”

فارق الملايين وطنهم، وتقطعت بهم سبل الحرب، في المهاجر والملاجئ وبيوت البؤس، والمدارس التي تحولت إلى مساكن. وبعد تضحيات أبناء السودان في مواجهة عرب الشتات وجنجويد الخلا، دُفن في مقبرة سركاب وحدها ستمائة شهيد، من خيرة طلاب الجامعات، وأطباء، ومهندسين، وضباط، وجنود، تراصوا صفوفًا وحملوا البنادق في الكفوف، حتى غادر التمرد مدحورًا أم درمان وبحري ومدني.

لكن التمرد لم يتركنا، بل أخذ يرسل يوميًا مسيّرات الموت ليحول دون عودة أهل الخرطوم، ويقصف محطات الكهرباء باسم الديمقراطية، ويسعى لتعطيل افتتاح المطار بعد ألف يوم إلا ثمانين ليلة. لماذا كل هذا الحقد الأعمى على الخرطوم؟ هل لأن مدني النخلي، الذي أفسدت بعض أغنياته الهتافات، قال:

> كل المشاعر والغنا
> ما قدرت أرجع ليك خطاي
> العايدة من درب الضنا
> لا شوق فتر في ليل أساي
> يقدر يعيد ليك الهنا
> ما الليلة مات فيني الأجيج
> وفتر حنيني الكان زمان

هل يستحق أمثال هؤلاء المبدعين يا ود دقلو حرمانهم من الماء والكهرباء؟ هل يستحقون أن تُسرق بيوتهم وتُغتصب نساؤهم وتُرسل إليهم حمم من السماء؟ هل يستحقون أن يُمنعوا من العودة إلى وطن الأحلام؟ ثلاث سنوات من العذاب لم تشفِ غلك على أهل السودان، والآن تصادر حلم العودة بأغلظ أنواع السلاح، وتعدهم بالموت إن هم اقتربوا من مدينتهم الخرطوم وأم درمان.

2.

مواجع الحرب تمددت من الخرطوم إلى الجنينة، ومن أم درمان إلى جبال النوبة، وسرقت الأحلام. التهجير القسري لم يكن حكرًا على المدن التي كانت تشع أنوارها ليلاً، بل طال القرى التي كانت تبث الأمل.

من شمال الدلنج بجبال النوبة، ومن جنوب دار البديرية، الأبيض، أبوقبة، فحل الديوم… بعث أحد رجال المليشيا صورًا حصرية لبيت أسرتي في قرية طيبة، التي أطلق عليها البروفيسور الراحل التجاني حسن الأمين “بلدة طيبة ورب غفور”.

تلك القرية التي يقطنها أهلنا من قبيلة خزام، ويشاركهم العيش الكريم الشنابلة والنوبة ونازحون من حرب دارفور الأولى، لم يسأل شيخها المعلم القديم علي البدوي حسن عن قبيلة الوافدين من شعيرية، بل منحهم الأرض والسكن. لكن الجنجويد وطأوا أرضنا، ولفظوا أهل القرية وطردوهم قسرًا، فهاجروا مرغمين إلى بلاد وراء بلاد.

من طيبة، انتقلت أسر إلى كمبالا ومعسكر اللاجئين في باسلي، وغادر البعض إلى مصر، وآخرون لجأوا إلى أم درمان في حمى أحمد عثمان حمزة، الذي لا يسأل القادمين عن بطاقات الهوية.

الصور التي وصلتني من طيبة لم تتعدَّ بيت إخوتي، الذي شيدناه بعرق السنين وسهر الليالي، في ألوان حسين خوجلي ومجهر الهندي عزالدين، وصحف أخرى نهلنا منها. شيدنا دارنا لتكون ملاذًا لمن ضل الطريق، ومتكأً من وعثاء السفر.

في مضيفة طيبة جاء أحمد هارون، وعبدالعزيز آدم الحلو، وقادة حزب الأمة، وسارة نقد الله، وأحمد البشير إبراهيم، والواثق البرير، والوالي عيسى آدم أبكر. وغنّى هناك عبدالقادر سالم، والأمين عبدالغفار، وعبدالرحمن عبدالله. واستضافت طيبة قناة الجزيرة، والمسلمي الكباشي، والمخرج عصام الصايغ، والصادق الرزيقي، ومحمد الفاتح، وعادل سنادة، وعمر سليمان آدم، وآدم الفكي، وفيصل حسن إبراهيم، وإبراهيم السنوسي.

لكن الآن، في بيتنا جنجويد. جاءت فلول آل دقلو مهزومة من الخرطوم، وجاء عرب الشتات من الصعيد ومن الغرب، وطردوا أهل طيبة وسكنوا بيوتنا. أصبحت مضيفتي ملكًا لرجل آخر، ومطبخ أختي فاطمة تسكنه “أم قرون”، التي لن نتوعدها كما توعد أحدهم:

> نحن بنركب الركبو البكاسي عشانك

أصبح بيتي ملكًا لأسرة أخرى، وبيت خالي الأستاذ الراحل مختار حسن، أحد أوائل قيادات جنوب كردفان في الحركة الإسلامية، احتله أحد أتباع دقلو. وكذلك بيوت خؤولتي: حسن، والبدوي حسن، وعبدالقادر حسن، وبيت ابن عمتي الحبيب المهدي، وشقيقه الصائم ديمة، وبيوت التوم الدخري وابنه علم الدين، وبيت عمي مصطفى كربوس.

لم يبقَ في قريتي من أهلها إلا أفراد بعدد أصابع اليد، ممن تعايشوا مع القهر والسلب. حُشدت السيارات المنهوبة في بيتي وبيت إسماعيل الحبيب، وأصبح أهل قريتنا غرباء في ديارهم.

لكننا لن ننساكِ يا طيبة، مهما تسلل لمكامن ضيائك الظلام:

> ما بننساكي وكيف ننسى العشق يا بنية
> وكيف أنساكي يا القصبة اللتبَه صبية
> ما بننساكي والجلسة المعاك هنية
> ارجعي عودي مهرة على المقنية

أُخرج أهلي قسرًا من طيبة، وسكنها من ظلموا أنفسهم، كما أُخرج أهلنا من كنانه، والدبيبات، والفينقر، وحلة أولاد عبدالمحمود، والميع، والكركرة، وانقلينا. وكما طُرد التكارير من أم سعدة، وبني فضل من الفينقر، وبرقو من مناقو الغربية والشرقية.

استوطن تلك الديار مستوطنون جدد، يقولون إنهم حرروها بسلاحهم. فكيف لنا أن نفاوض هؤلاء؟ وهل يملك وفد البرهان في بلاد العم سام تفويضًا من أصحاب الحقوق الأصيلة لاسترضاء من سرق بيتنا، ونهب سوقنا، واغتصب أخواتنا؟
3
من حيث المبدأ التفاوض المباشر أو عبر الوسطاء على طريقة نيفاشا والولايات المتحدة الأمريكية لها خبرات طويلة لحل مثل هذه النزاعات وهي تضع اولا مصالحها اولا ثم مصالح الآخرين لايعحزها الضغط على الحكومة وحملها على تقديم تنازلات كبيرة ومن بالطبع أمريكا لن تعيد لنا حقوقنا التي سلبت ولا أرضنا التي تم احتلالها ولا أهلنا الذين شردوا ولن تعيد مفاوضات واشنطون تلك الأرواح التي ازهقت ولايملك البرهان حق التنازل عن حقوق الآخرين

الحاكم نيوز وجهة جديدة في عالم الصحافة الرقمية المتطورة... سرعة اكتر مصداقية اكتر دقة وانتشار للخبر والإعلان ..™

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

3 × واحد =

زر الذهاب إلى الأعلى